من الخصائص التي خُص بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماجاء في حديث الخمس التي أعطيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعطها أحد قبله، وفي رواية أنها ست، كهذه الرواية التي رواها مسلم يقول: {أعطيت جوامع الكلم} ومعنى {أعطيت جوامع الكلم} قد سبق معنا.
وقلنا: إن جوامع الكلم هي: العبارة القليلة الألفاظ، الجامعة لمعان كثيرة وقواعد عظيمة في أمور الدين، مثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا ضرر ولا ضرار} ومثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة}ومثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
فهذه أقوال وألفاظ موجزة؛ لكنها تشمل أموراً عظيمة جداً يُستدلُ بها في أبواب كثيرة، وتُستخرجُ منها مسائلُ كثيرةٌ جداً، مع أنها ألفاظ موجزة.
وكما مرَّ معنا في حديث القدر {كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة، قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟
فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له
} بهذه العبارة الموجزة، انحلت كل الإشكالات التي تتعلق بالقدر، من كَانَ من أهل النَّار فهو ميسر لعمل أهل النَّار والعياذ بالله، ومن كَانَ من أهل الجنة فهو ميسر لعمل أهل الجنة.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ونصرت بالرعب} وفي رواية أخرى {مسيرة شهر} ومعنى ذلك: أنه إذا عقد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لواء جيش من الجيوش قذف الله تَعَالَى في قلوب أعدائه الرعب قبل أن يحاربهم، ولو كَانَ عَلَى مسيرة شهر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وأحلت لي الغنائم} {وكان الأَنْبِيَاء قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قاتلوا عدواً لهم فغنموا منه، فإنهم يجمعون الغنائم فيضعونها في مكان فتنـزل نار من السماء فتحرقها، ومن غل منها شيئاً، فإنه يعاقب}.
فجاء الحكم بالتخفيف لهذه الأمة أن الغنائم حلال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته عَلَى القسمة المعروفة إن كانت فيئاً أو إن كانت غنائم، فأحلت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصبح كل مقاتل يأخذ ما كتب الله تَعَالَى له وشرع من الغنائم، هذه من خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا يقول: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي} فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسترزق مما يقبضه من الغنائم التي أحلها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- له من قتال الكفار.
ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً} هذه نعمة عظيمة أيضاً، كانت الأمم قبلنا -وما يزالون إِلَى اليوم- لا يصلون إلا في الكنائس وفي المعابد، لكن هذا الدين رحمة للعالمين وهو دين عام للعالمين وعام لجميع الأزمان إِلَى أن تقوم الساعة.
فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خفَّف عن هذه الأمة، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية: {فحيث ما أدركت الصلاة أحداً من أمتي فعنده مسجده وطهوره} فإذا لم تجد الماء أو المسجد فتقول: بسم الله، وتتيمم، وتكبر، وتصلي، ليس هناك تخفيف مثل هذا، ولم يكن في أي ملة من الملل تخفيف من الله عَزَّ وَجَلَّ مثله، وهذا دليل من الأدلة الكثيرة عَلَى أن هذا الدين دين رحمة للعالمين، وأنه دين العالم، وأنه دين الإِنسَانية جمعاء، فلا تتعطل أمور الحياة ولا تتوقف في أي مكان كنت، فحولك الأرض تتيمم وتصلي في أي مكان لا يشترط المسجد، ولا يشترط الماء إلا في حال كونهما موجودان فيجب أن تتوضأ وإذا كَانَ المسجد أيضاً موجوداً فيجب عليك صلاة الجماعة.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأرسلت إِلَى الخلق كافة، وإنما كَانَ النبي يبعث إِلَى قومه خاصة} كما وضحت ذلك الروايات الأخرى فكان الأَنْبِيَاء يبعثون إِلَى أقوامهم، فموسى بعث إِلَى قومه، وزعيمهم فرعون وإلى بني إسرائيل خاصة ليخرجهم من طاغوت فرعون، ونوح، وهود، وصالح، وشعيب كذلك، ولكن مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جميع الأَنْبِيَاء والمرسلين أزكى الصلاة والتسليم بُعث إِلَى الخلق عامة، فدعوته للثقلين الإنس والجن.
ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار} مجرد أنه سمع بهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن دعوته عامة لجميع العالمين.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وختم بي النبيون}هذه الجملة السادسة التي زادت في هذه الرواية.
وهذه حقيقة قطعية لا يخالف فيها أحد من الْمُسْلِمِينَ وأعداء الله لم يخالفوا فيها من أول أمرهم بوضوح.